النص الفلسفي

تعريف النص الفلسفي
هو أحد أنواع النصوص ذات الطابع الكتابي، أو الطابع الخطابي، والتي تعد من النصوص صعبة الفهم في بعض الأحيان، وإلى غاية الآن فإن العُلماء المعنيين في علم الفلسفة لم يضعوا تعريف دقيق للنص الفلسفي، إلا أنه بهذا فقد يعرف في بعض الأحيان الأخرى على أنه هو ذلك النص الذي يرضخ ويخضع للعلوم الفلسفية. وهذا في كافة المواضيع التي يتضمنها إلى جانب مفاهيمها وكذلك مصطلحاتها المختلفة.
كذلك هو نص ذات بنية فيها الكثير من المعاني والمفاهيم التي تتداخل مع بعضها البعض. بشكل متكامل ومتواصل ومفهوم، حتى يصار الى توحيد الافكار وتوحيد المعاني. بعد مرورها باشكالات صغيرة معقدة سرعان ما تنحل بالوصول الى نتيجة فلسفي واضحة ومحددة ذات بنية ثقافية محددة. حيث يبنى النص بشكل كامل عليها.
هو نص يحتوي علي ثقافة شاملة تدور حول مفاهيم مختلفة من الثقافات والمعلومات المتنوعة في العالم. و غالبا ما يتم تواجد مشكلة او اشكالية مطروحة يتوجب دخول موقف موحد لتحديدها
أهدافه
كما وأن النص الفلسفي يُعنى بمعالجة : إنه يعمل على تبني النظريات المحددة. والتي من خلالها يعمل على عكس وجهات النظر التي يمتلكها صاحبها إلى جانب الحُجج والبراهين والأدلة التي تثبت صحتها أو تنفيها.
هو يعالج القضايا المجتمعية المعينة وعلى سبيل المثال المشاكل. التي تتعلق بالخير والشر أو حتى بقضايا العالم المعاصرة.
كما وأن النص الفلسفي يعنى أيضاً بإيصال الأفكار المعينة بشتى الأساليب والطرق المتعددة. وهذا على الرغم من اختلاف الكاتب مثلا والمستوى الفكري لدى القارئ لهذا النص. إلا أن أغلب القارئين للنصوص الفلسفية لمختلفة يكونون على اهتماما كامل بالمشكلة. أو القضية أو الظاهرة التي يعمل النص الفلسفي على معالجتها.
خصائص النص الفلسفي
إذا كنا حتى الآن قد بينا أن النص الفلسفي نص فإن هويته لم تتضح بعد بصورة كاملة. فما زال يتعين علينا أن نرسم الخطوط الفاصلة بينه وبين غيره من النصوص. علينا أن نحدد ما الذي يجعل هذا النص وحده فلسفيا.
و هذا التحديد هو مسألة غاية في الأهمية و هو ما يعنينا جوهريا كمشتغلين. بتعليم الفلسفة لأن السؤال عنه في نهاية الأمر إنما هو سؤال عن الخصوصية: فما الذي يشكل خصوصية النص الفلسفي؟
غالبا ما يتم تصنيف النصوص الفلسفية تحت خانة ” النصوص الفكرية” textes de pensée. و إذا كان هذا التصنيف يفيد جزئيا إذ يبين بعض ما يميز النص الفلسفي باعتباره يطمح إلى تقديم نظرية. فإنه لا يكفي لتحديد خصوصية النص الفلسفي و ذلك لسببين على الأقل:
أ-إن عبارة ” نص فكري”
تطلق على النص الفلسفي كما على فئة أخرى من النصوص كالنص الديني و العلمي و التاريخي مثلا. مما يجعلنا بحاجة إلى تحديد ما يميز النص الفلسفي عن هذه النصوص بدورها.
ب- إن اعتبار النص الفلسفي كنص فكري
ينطلق من تصور أن النظرية هي أهم ما في هذا النص و أن الفكر يتشكل. بصورة قبلية سابقة على الكتابة هو ما سنعمل على دحضه ضمن هذا العرض.
إننا نقبل أن يكون النص الفلسفي نصا فكريا على أساس أن هذا الفكر يلتحم التحاما وثيقا باللغة ضمن ممارسة فلسفية موحدة. و هذه الممارسة هي المسؤولة في نهاية الأمر عن خصوصية ذلك النص و من هنا نرفض. أيضا، تلك المعايير الخارجية و القبلية لتي طالما اعتمدت في تحديد خصوصية النص الفلسفي من قبيل معايير: الفيلسوف/المؤلف، اللغة الفلسفية،الموضوع الفلسفي.
إن النظرة التقليدية لخصوصية النص الفلسفي ترى في مجرد انتساب النص إلى فيلسوف معين شرطا كافيا لاعتباره فلسفيا و من هذه النظرة تعرف النصوص الفلسفية بكونها ما يكتبه أفلاطون و أرسطو و ابن رشد و كانط و هيجل…و غيرهم من الفلاسفة.
إن تصورا كهذا ينطلق من فكرة أبوة المؤلف و وصايته على نصه و هو ما لم يعد مقبولا. في إطار النظريات الحديثة حول النص التي تعلن موت المؤلف. كما ينطلق من تصور غير واقعي عن الفيلسوف. حيث ينظر إليه كما لو كان خارج العالم و الحياة اليومية، و أنه لم يكن يفعل سوى كتابة النصوص الفلسفية في حين أن الفلاسفة يكتبون نصوصا فلسفية و أشياء أخرى غير فلسفية. و هذا ما يجعلنا نرى أن النص الفلسفي هو الذي يحدد الفيلسوف و ليس العكس.
فأفلاطون فيلسوف لأنه كتب نصوصا فلسفية
و ابن سينا، مثلا، لا يكون فيلسوفا إلا عندما ننظر إليه من خلال نصوصه الفلسفية أما عندما ننظر إليه. من خلال نصوصه الطبية فلا يكون إلا مؤلفا في الطب… هذا ما يجعلنا نؤمن بإمكانية العثور على نصوص فلسفية في غير مؤلفات الفلاسفة، و إمكانية قراءة النص الفلسفي بفصله عن مؤلفه. و كما لا يمكن الاطمئنان إلى معيار الفيلسوف لتحديد خصوصية النص الفلسفي فنحن لا نطمئن، أيضا، إلى معيار آخر لا يقل شيوعا و هو ما يسمى ” اللغة الفلسفية” langue philosophique .
فما معنى هذه اللغة ؟ و هل هي موجودة، فعلا ؟
لنلاحظ مع جاك دريدا J. Derrida “ أن الفلسفة تتكلم و تكتب في لغة طبيعية بشرية و ليس في لغة رياضية أو كونية ، ولكن نجد أن في داخل هذه اللغة الطبيعية و أساليبها أن بعض الأنماط التعبيرية قد فرضت نفسها بقوة بصفتها أنماطا فلسفية دون غيرها (و المسألة هنا مسألة قوى و موازين قوى بالفعل). و لكن هذه الأنماط التعبيرية متعددة و متصارعة لا يمكن فصلها عن المضمون ذاته أو الأطروحات الفلسفية التي تعبر عنها.
لا يمكن الحديث، إذن، عن لغة فلسفية فلا وجود لمصطلح تفني في الفلسفة على الرغم من أن معجميا شهيرا كأندريه لالاند Lalande A. يتحدث عن مثل هذا المصطلح التقني. لقد كان لالاند نفسه مضطرا في كثير من المرات إلى تقديم عدة تحديدات للمصطلح الواحد مبرزا اختلاف استعماله من فيلسوف لآخر.
و هذا يعني أن كل فيلسوف يشتغل على اللغة بإدخال علاقات جديدة و هذا مصدر ولادة المصطلحات التقنية في الفلسفة التي لها هنا معنى خاصا حيث تظل مرتبطة بنص معين أو ،على الأقل، بمجموعة من النصوص .
لذا نؤكد مع جان لوشا Jean Lechat أن ” لا وجود لمصطلح تقني للفلسفة ككل… إن المصطلح الفلسفي. لا يحمل معناه في ذاته حيث يمكن نقله من تحليل فلسفي لآخر أو من مذهب لآخر كما هي حال المصطلحات الرياضية. التي تحتفظ بنفس التحديد في كل المبرهنات، إن السيمنطيقا الفلسفية ليست من النمط المعجمي بل الفكري، فالمعجم لا يمكن أن يغنينا أبدا عن البحث عن معنى المصطلحات من خلال فكر الفيلسوف و الصيغ التي عبر بها عن ذلك الفكر“.
إذا لم يكن الفيلسوف و لا اللغة الفلسفية معيارا للنص الفلسفي
فهل نستطيع القول أن الموضوع الذي يتحدث عنه النص هو الذي يكسبه صفة ” الفلسفي” ؟ ثمة قضايا تكاد تنال الإجماع على كونها فلسفية كقضية الوجود و المعرفة و القيم ، فهل يكفي أن يتناول نص ما واحدة من هذه القضايا ليصبح فلسفيا ؟ إننا لا ننكر أن هذه القضايا أخذت لفترة طويلة باهتمام الفلاسفة مما جعل البعض يعتبرها محاور رئيسة للفكر الفلسفي.
و لكننا لا نستطيع، أيضا، أن ننكر، و بنفس القوة، أن هذه المحاور لم تكن أبدا حكرا على الفلسفة بل نجدها موضوع بحث الفكر الديني و الفكر العلمي مثلا.
و هذا وحده كاف للقول بأن ليست المحاور ذاتها ما يشكل خصوصية النص الفلسفي بل كيفية حضورها في ذلك النص.
عندما نرفض أن نرى في الفيلسوف و اللغة الفلسفية و الموضوع منطلقات لتحديد خصوصية النص الفلسفي فنحن نرفض في الواقع معايير تحدد على أنها فلسفية بصورة قبلية و خارجية عن النص الفلسفي. و ضدا على ذلك نؤكد مع جان لوي غالاي J. L. Galay أن النص الفلسفي لا يتشكل بالضرورة من عناصر تؤخذ على أنها فلسفية بحد ذاتها، و نخلص إلى القول أن خصوصية النص الفلسفي ينبغي البحث عنها داخل ذلك النص و خلال عملية تشكله.
إن خصوصية النص الفلسفي ، في نهاية الأمر، هي خصوصية الكتابة و الممارسة النصية الفلسفية. فما الذي يميز هذه الممارسة ؟ إن أول ما يميز هذه الممارسة هو الربط الوثيق بين الفكر و اللغة.
في النص الفلسفي تتكون الأفكار و تتأسس النظرية في فضاء تشكل التعبير و نسج اللغة. و هذا يعني أن خصوصيته تقوم على رفض النظر إلى اللغة باعتبارها مجرد وسيلة تعبير و أداة نقل أفكار فلسفية أفرغت فيها إفراغا فلا وجود لفكر فلسفي خارج الصياغة الفلسفية للغة : إن النشاط الفلسفي- كما قلنا من قبل- مزدوج المظهر فكري و لغوي.
تتجلى خصوصيته أيضا
في طريقة بنائه و الآليات التي يعتمد عليها في تشكله و هذه الآليات كثيرة و متعددة سنقتصر هنا على ذكر بعض منها : الأشكلة، المساءلة، المحاجة، المفهمة، إلخ… إن هذه الآليات – من بين جميع معايير النص الفلسفي – تبدو ذات أهمية بالغة و تحتاج إلى وقفة طويلة لمعرفة كيف تحضر في النص الفلسفي و خصوصية هذا الحضور.
و لكننا نقول هنا، في انتظار أن تتاح لنا الفرصة للعودة لهذه الآليات أنها تتخذ أشكالا متعددة و صورا متنوعة. باختلاف طبيعة الممارسة النصية للفيلسوف و نوع خطابه الفلسفي.فعلى سبيل المثال إن كان الحجاج يتخذ عند بعض الفلاسفة النسقيين صورة الدفاع عن أطروحة أو تفنيدها بجملة من الأفكار كحجج. فإنه قد يتخذ لدى فلاسفة آخرين أشكالا مختلفة كالسخرية عند نيتشه، مثلا.
يمكن أن نرى ، أيضا، في اتجاه نحو الكونية محددا آخر لخصوصيته و ذلك مرتبط بالوظيفة الإقناعية. في هذا النص الذي إن كان ، في بعض الأحيان، ينطلق من ذات مفردة من “أنا” فردي، فإنه،غالبا، ما ينزلق إلى “النحن” لأن النص الفلسفي يسعى إلى إسماع صوت الحقيقة ، أو على الأقل يحاول أن يبرهن على أن الحقيقة الذاتية التي يتكلم باسمها- إن كان متكلما بحقيقة ذاتية- هي ، في نهاية الأمر، حقيقة كونية.
يتميز ، أخيرا، بكونه تناصا intertexte
فهو يمتص مجموعة من النصوص يتفاعل معها يحولها و يذوبها بداخله. وإن كان التناص كما تقول جوليا كريستيفا J. Kristéva – التي يرجع إليها الفضل في وضع هذا المصطلح- سمة مميزة لكل نص، فإننا نؤكد على أن ما يشكل خصوصية النص الفلسفي هو كونه ، أولا، من أكثر النصوص تناصا إن صح هذا التعبير، و، ثانيا، أن النصوص التي يتناص معها ذات نوعية مميزة.
فالخطاب الفلسفي كما نعلم لا يولد من عدم بل يتأسس على أنقاض خطابات أخرى سابقة. أو معاصرة و علاقة كل خطاب فلسفي بتلك الخطابات هي علاقة معقدة علاقة هدم و بناء تمثل و استبعادىاحتضان و إقصاء.
كما انه من حيث هو تناص يتميز كذلك بتنوع النصوص التي يتشكل منها ما بين نصوص فلسفية. و أخرى غير فلسفية و إن كانت الفئة الأولى- و هذا مما يشكل خصوصية النص الفلسفي- لها فرص أكبر للحضور في هذا النص.
لنقل، في نهاية حديثنا عن خصوصيته، أن هذه الخصوصية- و خلافا للاعتقاد السائد- لا تتجلى بالدرجة الأولى في حمولته الفكرية، بل تتمثل أكثر في الكيفية التي يعرض بها تلك الحمولة و الميكانزمات الموظفة في ذلك العرض، هذه الميكانزمات قد تحضر، جزئيا أو كليا، في نصوص أخرى غير فلسفية، لكن حضورها في النص الفلسفي من نوع خاص ، و هذا يعني ، أولا، أن المسافة الفاصلة بينه و غيره من النصوص، بما فيها الأدبية، ليست من البعد بالشكل الذي نتوقعه عادة.
كما يعني أيضا
أن خصوصية النص الفلسفي ينبغي البحث عنها في نمط الكتابة الفلسفية دون أن ننسى، طبعا، أن الكتابة- في مجال الفلسفة- لا تنفصل أبدا عن المكتوب، فمن التوليف المعقد بين الفكر و الكتابة تتجلى خصوصية النص الفلسفي ، إنها ، إذن، مسألة نسج texture .
و إذا كان النسج الفلسفي، عموما، له خصوصية فإننا نلاحظ، أيضا، أن هذا النسج لم يكن واحدا عند جميع الفلاسفة: فلا يوجد نموذج واحد و وحيد للممارسة النصية لدى الفلاسفة، ومع ذلك نلح على أن اختلاف ممارسات الفلاسفة لا تمنع من العثور على عناصر مشتركة ثاوية خلف ذلك الاختلاف و التنوع .
و تتجلى هذه العناصر في الحضور بهذا القدر أو ذاك، على هذه الصورة أو تلك للميكانزمات و المظاهر. التي اعتبرناها محددة لخصوصيته، هذه الخصوصية التي ينبغي مراعاتها في كل ما يهم الفلسفة و خاصة مسألة تدريسها.